منهجية الترجمة عند علي الجارم و تقي الدين الهلالي وطه حسين

جمعتُ في هذه المقالة أقوال وآراء علمين من أعلام العربية في العصر الحديث: الأستاذ علي الجارم (1881-1949) والشيخ تقي الدين الهلالي (1893-1987) في الترجمة وطرائقها ومشاكلها، والمنهجية التي ينبغي على المترجم العربي أن يسلكها حتى يخرجَ كلامه فصيحا، موافقا للذوق العربي الأصيل.

1. منهجية الترجمة عند علي الجارم

قال الأستاذ علي الجارم في مقدمة ترجمته لكتاب ستانلي لين بول "قصة العرب في إسبانيا": «وقد قصدتُ في ترجمة هذا الكتاب إلى ترجمة المعاني مع الحرص على الرُّوح التي أَمْلَتْه، فإن لكل لغة بيانا، وحَسْبُ النَّقل أن يُدرك الغايةَ ويصيبَ اللُّبابَ.»

أما في كتاب "جارميات" الذي جمع بحوثه ومقالاته، تحت فصل "إصلاح الأغلاط الشائعة في اللغة العربية"، فقد أطال الأستاذ علي الجارم الكلام عن الترجمة وما لحقها من آفات في العصر الحديث، فقال:

ليست الترجمة وضع كلمة عربية مكان كلمة أعجمية

«والآن نتحدث في أغلاطٍ تنتشرُ في عبارات الكتاب، وبعض هذه قد جاء الغلطُ فيها من ناحية الأسلوب، لأن الترجمة في هذا العهد الحديث طغت على كل شيء وتصدر لها في كثير من الأحيان من لا يعرف من معنى الترجمة إلا أنها وضع كلمة عربية مكان كلمة أعجمية، وأنها نقل الأسلوب الأعجمي إلى العربية كما هو، بتغيير كلماته من غير تصرف سليم أو ذوق عربي دقيق... ورأى بعض الكتاب أنه من التظرف والتجديد أن ينحوَ في كتابته منحى الأسلوب الإفرنجي.

وإذا عرض لكم شك في بعض ما أقولُ فإن أيسر ما يَذْهَبث بهذا الشك أن تعرضوا إلى قطعة مما يكتب هذا الصنف من الكتاب، وأن تجربوا بأنفسكم بوضع كلمة أجنبية مكان كل كلمة عربية، فإن استقام لكم ذلك من غير كلفة ورأيتم أنكم خرجتم بقطعة فرنسية أو إنجليزية صادقة التعبير وصحيحة المعاني، فاعلموا أنني صدقتكم الحديثَ. [وهذا] خير ميزان لتمييز الأسلوب العربي السليم من الأسلوب الأجنبي الدخيل. إن لكل لغة أسلوبها وخواص تعبيرها، وإنه من الخلط والخبل الأدبي أن يسطوَ أسلوبُ لغة على أخرى، وإن من ضعف القومية وخَوَر النفوس أن تنسى الأمة مقومات لغتها لتفنى في سبيل لغة أخرى.

فلان يترجم الألفاظَ وفلان يترجم المعانيَ

طلبَ إلي عظيم مرة أن أذكرَ له الفرقَ بين ترجمة فلان وترجمة فلان، وكانت لهما شهرة في الترجمة وتمكن في الإنجليزية وإلمام بالعربية، فقلتُ له على الفور: "إن فلانا يترجم الألفاظَ وفلانا يترجم المعانيَ". فسُرَّ لهذا الإيجاز الذي يتضمن المعنى الصَّحيح للترجمة ويبرزُ أكبرَ عيوبها. نحن لا نريد ترجمة الألفاظ، ولكنا نريد ترجمة المعاني. ومن يظن أن كتاب "كليلة ودمنة" مترجم؟ نريد ترجمة على هذا النمط، ومن هذا الطراز. نريد من المترجم أن يقرأ الصفحة في الأصل الأجنبي ويفهمَها حق الفهم ويدركَ مراميها، ثم يلقي بالكتاب من يده ويكتبَ ما وعاه من عند نفسه بلسان عربي مبين، وإذا كان بالأصل مجاز أو خيال أو كناية بحثَ في لغته الفسيحة الواسعة المدى عما كان يقوله العربُ في أمثال هذه التراكيب.

وليعلم أن لكل لغة خصائصُها وبيئتُها وأسباب سعتها وضيقها، فقد تجد كلمة في اللغة الأجنبية لا تُؤدَّى إلا بجملة في العربية وقد تجدُ عكس ذلك، وقد تجد كثيرا من المترادفات الأجنبية في ناحية خاصة في حين أنك لا تظفر بكلمة عربية في هذه الناحية إلا بعد عرق الغربة، وقد تجد عكس ذلك، وقد تجد في كل لغة دقةً في التعبير في بعض نواحيها وانحلالا شائنا في نواح أخرى.

طُلِبَ إلى مرة أن أراجع كتابا كبير الحجم تُرْجِمَ من الإنجليزية لإصلاحه وتهذيبه، فرأيتُ أن المترجمَ كان أمينا إلى أقصى الحدود الأمانة، وأنه ترجم كل كلمة وكل حرف، فعادت كتابته وهي عجيبة العجائب لا شرقية ولا غربية، فحِرْتُ في أمري ورأيتُ أن إصلاحَه من المعجزات وأنه خير لي وأهون أن أكتبَه من جديد.» انتهى.

ثم ذكرَ الأستاذُ أمثلة عن كثير من الأساليب التي تسربت إلى العربية من سوء الترجمة.

***

2. منهجية الترجمة عند تقي الدين الهلالي

قال الشيخ تقي الدين الهلالي في مقدمة ترجمته لكتاب جوزيف ماك كيب "مدنية المسلمين في إسبانيا": «فأخرجَ لي [الأستاذ محمد أحمد] كُتيبا اسمه "مدنية العرب في الأندلس"، وأباح لي خزانةَ كتبه العظيمة، وأرشدني إلى المصادر الإنكليزية... فترجمتُ الكتابَ ووضعتُ له مقدمةً وعلقتُ عليه حواشيَ مفيدةً؛ وراعيت في الترجمة المحافظةَ أولا على المعنى، وثانيا على جمال الأسلوب العربي وعدم خدش محياه بالمفردات الأجنبية غير المنسجمة، والتراكيب الفاسدة التي يتبرأ منها الأدب العربي الخالص.»

وفي مواضع متفرقة من كتابه "تقويم اللسانين" تكلم الشيخ الهلالي عن المنهج الصحيح للترجمة وانتقدَ انتقادا شديدا "المصائب اللغوية الاستعمارية" التي ألحقها جهلة المترجمين بالعربية.

الترجمة اللفظية سببها العجز اللغوي

قال الشيخ: «وإنما وقعَ جهلةُ المترجمين في هذا الاستعمال الفاسد لضعفهم في اللغتين أو إحداهما، فلا يستطيعون إدراك معنى الجملة مجتمعة ليصوغوا في اللغة الأخرى جملة تؤدي المعنى المطلوب بألفاظ جيدة الاستعمال، واقعة في مواضعها التي يقتضيها النَّظْمُ الفصيح. وهذا العجز هو الذي يُلْجِئُهُم إلى أن يبلدوا كل مفرد في إحدى اللغتين بمفرد آخر في اللغة الأخرى، فيجيء التركيب فاسدا معوجا لا تستسيغه أذواق الفصحاء في اللغة التي ينقل إليها المعنى.»

صفة المترجم الكامل

وقال في موضوع آخر: «وسبب وقوع مثل هذه الأخطاء أن المترجم يكون متمكنا من اللغة الأجنبية، ضعيفا في اللغة العربية، يترجم كلمة بكلمة، والمترجم الكامل يقرأ الجملة من اللغة التي يترجمها، ويستوعب معناها في ذهنه، ثم يصوغ لها جملة فصيحة في اللغة التي يترجم بها، حتى إذا قرأ القارئ العربي كتابا مترجما لا يشعر أنه مترجم حتى يخبر بذلك، كما نرى في ترجمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، وترجمة البنداري للشاهنامة.»

صفة المترجم الجاهل

وقال في موضع ثالث: «هذه العبارة (قاتل ضد) وما أشبهها من المصائب الاستعمارية اللغوية التي نَكِبَت بها العربية، والأصل في ذلك أن (قاتل) في اللغة الإنكليزية والألمانية من الأفعال اللازمة التي لا يتعدى فعلُها إلى المفعول به إلا بحرف... والمترجمُ الجاهل هو الذي يضعُ مقابلَ كل كلمة من اللغة التي يترجمها كلمةً تقابلها من اللغة التي ينقل إليها المعنى.»

***

3. منهجية الترجمة عند طه حسين

وقفتُ على كلام نفيس عن الترجمة ومنهجها (في الأدب خاصة) للأستاذ طه حسين في مقدمته لترجمة الزيات لرواية جوته "آلام فرتر"، فإليكم نصه:

«فإذا وُفقَ الناقل إلى اختيار ما يَنقل فأمامه من الصعاب ما يعسر تذليله، ومن العواقب ما يصعب تمهيده، أريدُ صعوبةَ النقل في نفسه، فإن الناقلَ ليس حريا أن يحسن اللغة العربية التي ينقل إليها واللغة الأجنبية التي ينقل عنها فحسب، بل هو خليق أن يحسن الفن الذي ينقله إحسانا تاما، وأن يكون من إجادته بحيث يستطيع النقدَ والمناقشة إذا كان موضوعه علميا أو فلسفيا. فإذا كان فنيا أو أدبيا فالصعوبة أثقلُ عبئا وأشق احتمالا، لأن الناقلَ ملزمٌ حينئذ أن يكون من القدرة والكفاية بحيث يستطيع أن يقوم مقام المؤلف الأول فيشعرُ بقلبه ويحسُ بحسه ويرى الأشياء بتلك العين التي رأى بها المؤلف، ويصفها بهذا اللسان الذي وصفها. فإن الترجمةَ في الفن والأدب ليست وضعَ لفظ عربي موضع لفظ أجنبي، إذ الألفاظُ شديدة القصور عن وصف الشعور في اللغة الطبيعية، فكيف بها في لغة أخرى؟

إنما الترجمة الفنية والأدبية عبارة عن عملين مختلفين كلاهما صعب عسير: الأول أن يشعرَ المترجمُ بما شعر به المؤلف، وأن تأخذ حواسه وملكاته من التأثير والانفعال نفس الصورة التي أخذتها حواسُ المؤلف وملكاتُه، إن صح هذا التعبير. والثاني أن يحاول المترجمُ الإعرابَ عنهذه الصورة والإفصاح عن دقائقها وخفاياها بأشد الألفاظ تمثيلا لها وأوضحها دلالة عليها.

وخلاصة القول أن المترجم يجب أن يجتهدَ ما استطاعَ لا في أن ينقلَ إلينا معنى الألفاظ التي خطتها يدُ المؤلف بل في أن ينقلَ إلينا نفسَ المؤلف جلية واضحة تتبين فيها من غير مشقة ولا عناء ما أثَّر فيها من ضروب الإحساس والشعور.»

تعليقات

المقالات الشائعة

باقة من أجود المكتبات الإلكترونية الفرنسية (مجانية 100%) – Bibliothèques d'e-books gratuits

عشرة (10) كتب للمترجم المبتدي ولا يستغني عنها المنتهي